07‏/12‏/2014

الركض في الضباب .. قصة قصيرة .. علا حسان

ارتمت عيناه فوق زرقة البحر الصافية ، فمنذ زمن بعيد لم ير ارتعاشتها الرشيقة ، لم يصغ لأمواجها المتهافتة ، لم يقف خارج دائرة وجوده .
      نبض الأعوام يتدفق كالسيل جارفا الذكريات والأمنيات ، خطوه لاهث ، أنفاسه متلاحقة ، الدعة قلق ، والسكينة فناء ، والصمت انقطاع عن العالم ، والقلب في عناء ،  أيما عناء ،‍ ذاب في أتون العمل المتواصل وانصهر ، وها هو يجلس أمام البحر متبتلا ليبصر الأفق وقد التصق بسطح مياهه في غموض وانزواء ، والخريف تتساقط أوراقه فتعانق أديم الأرض في هوان وانكسار .
                 
   بينما يضرب النسيم جذوره الراسخة فتنفض عن أطرافها وسن النسيان وتتذكر ، للرتابة ظل في كل ركن ، في كل غرفة ، في كل وجه ، يعود الى بيته ، لم تعد بعد من عملها .. في زمن مضى من أعوامهما الأولى كان ينتظر ، ينتظر عودتها..

-       اشتقت إليكِ
-       أنا أكثر
-       ماذا أعددتِ على الغذاء؟ 
-       تعال لترى بنفسك

في كثير من الأحيان نضن على أنفسنا بالسعادة ونرشف كؤوس الهموم في غبطة. دلف إلى المطبخ ، تناول غداءه البارد في صمت

    سرعان ما تفقد الأشياء حرارتها ونسأم معانيها .. ضقت بالغضب ، خصام يتبعه صلح وصلح يليه خصام ، مللت مرور الأيام بين راحتيك في صرامة وحزم ، وكأن الحب لم يعد جديرا بحياتنا ، لم يعد يليق بسنوات عمرنا ‍!
                                                                  
   تسارع يده إلى وجنتيها لتمسح عنهما الغضب، ولكن الدلال يتفحم فيملأ أزمنة الحب ويزحم أروقة القلب ، ولم يبق متسع وجمالك تتراكم فوقه طبقات من إهمال وانشغال وحنق وغضب وثوم وبصل وجد وعمل ، والليل موحش مقفر والعالم تائه فيه الحسن يا زوجتي فيجذبني في عنف ويشدني في حدة فلا أتراجع ولا أملك قوة الرفض.

ومعالم الأشباح تتراءى لي حسنا ثريا والرغبات تستوي ألما حيا ، وكبرياؤك فارغ أجوف والإحساس بك مسلوب معدوم ، والعالم تائه فيه الحسن يا زوجتي .

    مولع بأمس ذكراه قريبة يود لو .. يستبقيه ، ويعجب لشعوره أن تغيرا ما يحدث ! ما الذي تغير ؟ شعيرات بيضاء ؟ ينظر في المرآة مرة بعد أخرى ، يسابق قلبه أياما مهرولة ويحن الى لحظات مقطرة بندى الحب .. إلى غناء قديم.

     غادر البيت عائدا إلي عمله ، شيء ثقيل يجثم فوق الصدر فيختنق الشهيق وتشتاق العين ، ويهفو الإحساس ويطير الخيال محلقا متجاهلا ، وأنساك يا زوجتي ، فغضبك بغيض ونفورك كريه ، لم تعد يدي تقترب من وجنتيك لتمسح عنهما الغضب ، ويأنس الى حلاوة المرح.

     العاشرة مساء ، البيت مظلم ، لا صوت ، ضوء خافت يطل من غرفة ريم ودانا ، وضع أكياس الخبز فوق المنضدة متجها صوب غرفتهما محاذرا أن يحدث صوتا ، تغطان في سبات ناعم ، وزوجته بجانبهما نائمة ، استدار وغضب يستبد به .. نبض الفؤاد يتضاءل ويصيبه أرق مهمل .. دائما.. لا أحد ؟
   ضغط على زر التلفاز نافخا ، العالم تائه فيه الحسن يا زوجتي ، والألم لا تحصره جدران الجسد، سحب تتجمع ورياح تقبل وأمطار لا تسقط ، ترك المكان خاليا ، والتلفاز دائرا ، وانطلق الى الطريق ، برودة الهواء تخفف جفاف الحلق وحرارة القلب لا تبرد ، لن أدور في دوامات صفحك ورضاك ، لن أسعى لدلالك ارتجيه .

    في فراغ الصخب أحتسي قطرات سعادة بها لا تشعرين ، في حمأة المجهول أمضي ولا تنظرين فأبقي حيث أنت معهما وأنا عندك لا وجود لي ، كأنما حملتك فوق جناحي إلى مكان تعشقينه ثم أبديت شكرا وحبا ووليت عني إلى صغيرتين أحبهما ، ولاهية بهما ، وكلما رأيتني تحجبينني عن عينيك .. وماذا تنتظرين ؟ أن أقدم فروض الصدق والولاء وما زلت في سذاجة دلالك ترفلين؟!! هيهات فالعالم تائه فيه الحسن عزيزتي! 

  استيقظ مثقل الرأس ، ورنين المنبه يدوي ، لا أحد ، خرجن جميعا هي إلى عملها، وابنتاه إلى مدرستهما ، للقلب أهواء تستعبده ما ذلك العناء يا قلبي ؟ ما ذلك العناء؟

لو يتغير اللون ، ويحمل أريج كل لحظة مذاقا مختلفا ، لو ألتفت فأراني فوق عرش ذهبي وأركلك بعيدا، أنبذك في قسوة ، لو تتغير الأشياء ‍!
   يتجه صوب المنضدة ليتناول إفطاره الذي أعدته زوجته، والغضب في عمق النفس خمار ملتهب، والكيان نزوع قائم .. وإذا بوريقة بجانب فنجان الشاي ، رأى مثلها من قبل ، تحترق رغبة وتبرد أمنيات حارقة ، ويقرؤها في تمعن :

شكرا يا بابا على الخبز
ربنا يخليك لنا
ريم ، دانا
فيمضي إلى عمله مترعا بالحب !!


08‏/09‏/2014

رواية"هجرة سرية" للكاتبة علا حسان تحصد جائزة القلم الحر للإبداع العربي

حصلت الروائية الدكتورة علا حسان على جائزة القلم الحر في الرواية عن روايتها "هجرة سرية" وذلك 
في مهرجان القلم الحر الخامس للإبداع العربي الذي أقيم في الفيوم تحت رعاية الدكتور حازم عطية الله
 محافظ الفيوم ورئيس المهرجان الاستاذ رجب عبد العزيز . 



وتم تكريمها في المهرجان الخامس الذي كان احتفالية كبيرة ازدانت بها الفيوم، وشارك فيها  كوكبة من
الأدباء والمبدعين من جميع محافظات مصر وجميع الدول العربية. 
 وتم تكريم نخبة من مبدعى وشعراء مصر والدول العربية الشقيقة كما حضر المهرجان عدد من القيادات السياسية
 وفناني بعض الدول العربية ووفود ممثلة عن الدول المشاركة .
وقد صدر للروائية علا حسان ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين، وحصلت على العديد من الجوائز في مصر والدول العربية.




11‏/08‏/2014

البكاء مع قطرات المطر.. قصة قصيرة .. علا حسان

      في المساء حين تتساقط الثلوج مرتطمة بالنافذة، فيغلفها الضباب الأبيض، أمسحها بيدي، أنظر إلى الخارج فأرى الطبيعة غائمة، هادئة وديعة، كم أعشقها حين تكون بلا شمس! ربما أشعر أنها تبكي أو أنها تغتسل، فأتوهم أن الثلوج قد تطهرني من الآثام، وأن البرد قد ينقيني من كل الذنوب إلا ذنب حبك..!
وأنت على البعد السحيق هناك حيث دول أخرى تغتسل طول العام بالبرد وترتدي الثلوج البيضاء فأتجه نحوك بخيالي لأراني بالقرب منك، من ذلك الإحساس الجميل بالطبيعة اللامعة التي أعشقها ! بالقطارات النظيفة التي تحملك كبساط الريح من دولة لأخرى، بالدفء البارد الذي يسري في الجسد فيحيل كل شيء إلى برودة منعشة، بعيداً عن القيظ والهجير وجفاف الحلوق، بعيداً عن الوحدة والألم والعذاب..
وحدتي بدونك..
عذابي في البعد عنك..
غيرتي من الثلج والمطر..
والقطارات التي تحظى بك..
أتذكرك على البعد فأشم رائحة الورد..
وأصغي إلى ضربات الثلج.. ودقات القلب..!
 ندت عن قسماتها في صمت الليل القلق أصوات مبهمة كأنما تخاطب نفسها، ومراد يغط في نوم هادئ عميق، راح خيالها يكاشفه بما في مكنون نفسها، بأفكارها المحمومة، تتصوره مخطئا لتجد شتى مبررات السخط والغضب ولكن نهرا باردا يحول بينها وبين أمنيتها المفزعة، تركت الفراش الوثير ومضت إلى الصالة الواسعة.
أضاءت أباجورة عاجية اللون، استلقت فوق أريكة ناعمة بجوار المدفأة، تعبث أناملها بأوراق الزينة الخضراء، ودت لو يفارقها السخط وينطوي الليل بلا كدر .
   استيقظ مراد مبكرا كعادته، لم يرد إزعاجها، بادر إلى إعداد طعام الإفطار، شعرت به، أدارت عينيها في الغرفة الواسعة، وقد ثقل رأسها بدويّ فارغ، شعرت بخطواته الخفيفة فخاطبت نفسها قائلة: كم هو رقيق وديع، جلست في الفراش وراحت تتخلل خصلات شعرها بأصابعها كأنما لتطرد عنها ذلك الفيض المتلاطم من المشاعر المتناقضة.
أقبل مراد وهو يحمل طعام الإفطار، تأملته في غبطة وسرور، وقال بصوته الدافئ: صباح الخير حبيبتي..
أحست وخزا لما انطوى عليه ليلها من سخط وكدر فأجابت في فتور: صباح الخير.
قال في نشاط وحيوية: أعددت لك طعام الإفطار سيدتي الجميلة وسأنتظرك في الشرفة.
   ضحكت في سعادة، انزلقت إلى ارض الغرفة المفروشة بسجاد داكن الحمرة، اتجهت صوب المرآة، ولما انتهت من تمشيط شعرها اقتربت في خفة من الشرفة وقد أظهرت نحافتها بيجامة بنية.. ومراد منكب على قراءة الجريدة، أطلت من بين ستائرها تريد مداعبته، وقد افتر ثغرها عن ابتسامة صافية، ألقت بنظرها إلى ما يحوطهما من شرفات فانقلب وجهها عابساً وغاصت سعادتها في ظلمة سحيقة، ارتاعت لرؤيتهن يسترقن النظر إليه في لهفة..  حتى هذه الفتاة الصغيرة وهذه المرأة أليست متزوجة؟ كم صرت أكره كل الأبواب والنوافذ، كل الشرفات، لم يلحظها مراد، فعادت إلى فراشها ثم هتفت قائلة: مراد حبيبي ألا يمكن أن نتناول إفطارنا في الداخل؟.
ـ الجو اليوم جميل يا هدى .
ـ مراد أخشى أن يصيبني برد أرجوك!
عندما وضع الإفطار أمامها رنت إليه قائلة في بعض الضيق: أغلق باب الشرفة.
يذكرنها دائما بقبحها، تشعر وهي معه أنها ضئيلة، الغمز واللمز من حولهما في كل المناسبات يشعرها بضآلتها وبعدم الرغبة فيها.. تجد أنها موضع الانتقاد دوما والسخرية، أنها مغبونة محتقرة..
     مضت الأيام كالعاصفة وانقضت الليالي ساخطة، كانت كلما أوشكت أن ترشف كأس الهناءة كسرت منها، امتد بصرها إلى أفاق مجهولة من التفرد والاختباء والانطلاق بعيدا عن العيون المتربصة، لم تبال لحظة برغد الحياة، وكان كل ما حولها، الأثاث الشاهق البياض، الذي اشتراه مراد من أفخم المعارض، والبساط العنابي الذي تغوص فيه الأقدام، والرخام الفاخر، وهذه الأنتيكات التي لا يفتأ مراد يبتاعها من حين لآخر.
كانت تشاهد التلفاز حين ارتطمت قطرات المطر بزجاج النافذة، قامت لتغلقها وأسدلت ستائرها ثم أضاءت أنوار البيت.. عادت بخطوات ثقيلة، توقفت عند زجاج النافذة أسندت رأسها باكية، عاد خيالها إلى الوراء شهورا ربما في أوائل الخريف حين سألتها سناء: حقا ستتزوجين مراد ؟!
قالت في سعادة غامرة: نعم بعد أسبوعين..
ـ انتبهي مراد أحباؤه كثيرون!
طافت بها هواجس كتلك يوما ما زمنا ما لا تذكره، هل كان الكذب والخداع هو الحوار بيني وبين نفسي، هل عمت عيناي عن الحقيقة، هل صدقت الوهم الجميل لأني أردت أن أصدقه؟ آه أتذكرين ذلك الحلم.. رأيت مراد يقبل على مادا ذراعيه، يوشك أن يحملني.. أراه يقترب بل أراني ابتعد، تنطلق من حولي أصداء ضحكات معربدة فأضع يدي على أذني في خوف لماذا تجاهلت ذلك الحلم ؟ لمَ أنكرتُ ما قالته سناء ؟ كيف تستحيل السعادة نقمة وغضبا؟!

لازمها تذمر دفين، حار مراد في أمرها، ظن أن معاناتها بسبب تقصيره نحوها، ضاعف من اهتمامه بها، فكانا يقضيان معظم الوقت في الملاهي والمطاعم.. بدا التساؤل فوق قسماته كسحابة تحجب وجه القمر، كيف تبثه همومها، عن ماذا تخبره عن إخلاصه لها وتفانيه في إسعادها؟ عن رقيه وبهائه الذي يلفت الأنظار، عن ذوقه ورقته، وأدبه الجم، طاعته المطلقة لها، عن حسنه ورجولته التي تسحر قلوب النساء، وتلفت الأنظار أنظار الحسان؟ وما ذنبه ؟ أبت إلا أن تصمت وتستدعي كل الذكريات الجميلة كي تمر الأيام والساعات، ولم تعد تتحين الفرص.
في صباح عبق برياح خفيفة ..
اتصلت به في الشركة فلم تجده، ولم يكن ليترك عمله نهارا، فأعادت الاتصال وسألت سكرتيرته عنه.. أجابتها بأنه " خرج للتو بصحبة السيدة سامية إلى كازينو لوران.
سامية؟ كازينو؟ رددت هذه الكلمات ترديداً حائراً " سامية ألم تكن يوما مشروع زواج؟" ترى هل يسعفها القدر بحجة هل تجد ما يؤكد شكوكها؟
عبرت ممرا تتدلى فوق سقيفته أغصان اللبلاب، لمحتهما عن بعد.. بينهما حوار هادئ طويل.. خفق قلبها بعنف وهي تقترب منهما.. باغتته بنظرة هازئة فأزاح نظارته الشمسية واقفاً ليرحب بها وأراد أن ينبس ولكنها ولتهما ظهرها في غضب..
 تذهب وتجيء وهي تلوك يديها في عصبية وتوتر، دخل مراد تسبقه هالة من اللفتات الرقيقة: لماذا لم تنتظري حتى أشرح لكِ الأمر أردت أن أخبرك بالحكاية سا..
قاطعته في غضب قائلة: الحكاية هي أني اجلس في البيت انتظر زوجي المخلص وأنا أظنه يعمل ليل نهار ولما ذهبت أرى عمله وجدته عملا شاقا عسيرا.. ثم لوت شفتيها في احتقار.. فالجلوس مع امرأة جميلة وحب قديم عمل شاق ومتعب.
قال بنبرات جادة: أنت لم تفهمي الأمر على حقيقته دعيني أفسره لك!
قالت في ثورة: ماذا تفسر لي ؟ إني افهمه تماما ولا أريد تفسيرا لقد رأيت بعيني!
ـــ سامية كانت تمر بمشكلة واحتاجت مساعدتي..
قالت في تهكم: مللت أعذارك ومبرراتك دائما تريد إقناعي أنك لم تخطئ أبدا وأنك الملاك البريء.
نظر في وجهها مستنكرا سحنتها المكفهرة، وقال في ضيق: أنت تعطين الموضوع حجما أكبر من حجمه!
ـ مراد حياتنا لا يمكن أن تستمر، لم أعد أستطيع أن أتحمل أكثر من ذلك، اذهب إليهن، أنا لا أريد أن أبقى معك.
ـ يبدو أنك عصبية جدا الآن ومتوترة سأتركك حتى تهدئي.
همّ بأن يتركها، فقالت في حدة: أنا في منتهى الهدوء.. أرجوك أريد الطلاق.
حملق في وجهها: لا أرى سببا لهذا ـ ساخرا ـ وأنت تعلمين أن شكوكك لا أساس لها لست الرجل الذي يخون زوجته، ولكنك تريدين أن تجعلي من الحبة قبة كعادتك دائما!
شخص بصرها إلى لا شيء فاستعاد مراد هدوءه: إن كنت لا تصدقيني اتصلي بسامية لتخبرك الحقيقة
لا تدري إن كانت تعانده أم تعاند نفسها.. تنتقم منه أم تنتقم من نفسها.. كأن شيطانا يقودها إلى حتفها وهي راضية مستسلمة..
أزاح مراد الستائر عن النافذة الزجاجية، تأمل المدينة الساكنة وقد حجبت عنها الغيوم أشعة الشمس، فأضاءت المصابيح المساكن والشوارع ببريق خافت، وإذا برياح باردة ترسل أمطارا فتزيل أدراناً في الأفق وغبارا.
طلبت الطلاق في لا مبالاة وفي خفة لهفوة جعلت منها ركاماً من الخطايا، أصرت بحدة، خشيت أن تتراجع، فاقت جرأتها كل تصوراتها، وكأن جميع حاسديها يساندونها في مطلبها، استعان مراد بشقيقتها وبعديله محمود ليمنعاها عن التفكير في ذلك واتخاذ قرار في أمر لا يستحق. أبت أن تخفق، لجت في العناد والمكابرة، وما زالت به حتى طلقها..
طلقها غير نادم، غير حانق، لم يعد يكبد نفسه مشقة التفكير في علة ما حدث كان قد هيأ نفسه على أن يخلص لها مدى الحياة، ولكنها كانت كمن يحمل جوهرة غير مصدقٍ أنها حقيقية.
لم تتلوث مشاعره بالأغراض الدنيئة وبالرغبات المحرمة ولم تحلق بخياله رغبة آثمة أو غواية آمنة، كان صافيا خالي البالي صفر المشاعر إلا من إخلاص لها.
أخبرتها نجوى أن مراد تزوج وسافر إلى أوروبا، لم تكترث إذ رمت بالذكرى بعيدا عن خاطرها، وبعد بضعة شهور تزوجت هدى من دياب محاسب أسمر مجعد الشعر بارز القسمات، متوسط الطول، وفي شقتها الجديدة نعمت بسعادة هانئة وبصفاء ضحكات، ولاح الماضي سحيقا يطمره رماد، ولكن أمارات تتسلل إلى أعماق القلب فتزعزع يقينا وتدمر أحلاما، وتدق أبواب السعادة بعنف، إذ كان دياب ضحوكا منطلقا ومتقلباً تتغير قسماته لأتفه الأسباب تنم عن قسوة وتجهم.
في مساء يعتريه ملل.. نهضت لتحضر المائدة،  ثم جلسا يقضيان سهرتهما مع فيلم عربي..
تصب القهوة وهي تتأمل سيارة بيضاء، أثنت ركبتيها فوق الأريكة وانسال تساؤلها بعفوية: ما رأيك أن نشتري سيارة ؟
نظر إليها في تهكم قائلا: أنت تحلمين!
انتفضت الذكرى كأن حجرا ألقي في ماء آسن، حيث عرض عليها مراد أن يشتري لها سيارة ولم تبالِ، تنكر وتر الذكرى حين اهتز وتتطلع إلى أفق أكثر اتساعا، وتنتظر آملة أياما أكثر رحابة، بلا أنفاس لاهثة... بلا خطوات مقيدة، تفقدت شيئا لا معالم له وازداد الأفق ضيقا، بينما تنقضي الأيام في صرامة وحزم والليالي في وحدة وملل.
 وهما يتناولان إفطارهما، قالت وهي تقلب الشاي: ألن تعود اليوم مبكرا يا حبيبي؟
قال في لامبالاة: لا.. لم ؟
قالت برجاء: أمل من الجلوس كل ليلة بمفردي!
أشعل سيجارا وهو يقول: في يوم عطلتي سأسهر معكِ، أما باقي الأيام تعلمين أني مشغول.
قالت في استياء: أي عمل هذا، أنت لا تأتي إلا للغداء ولا أراك بعدها إلا في اليوم التالي؟!
ابتسم قائلا في نبرات ممطوطة: ماذا تريديني أن أفعل؟ أجلس معك في البيت ليل نهار؟!
ـ دياب لا تهزأ بي..
ـ سلام..
تلفح حرارة الصيف الوجوه فتمتزج رائحة العرق بشهيق ناقم وزفير خانق، تتوق للحظة استرخاء دائمة، ولوسادة تطرح عناء القلق، وتضيق القاهرة الواسعة، تضيق بالبشر، بأنفاسهم، كانت كمن يجدف بيديه وهي تحاول النزول من الحافلة، استخلصت نفسها من بين الأجساد المتلاصقة في وجوم وسأم، بعد نزولها قالت: أخيرا !
   وضعت حقيبتها السوداء فوق كتفها وهي تنظر نحو الطريق المكتظة بالسيارات لتعبرها إلى الجانب الآخر، الشمس حارقة والجو خانق، نظرت في ساعتها فكانت الثالثة عصرا موعد عودة دياب من عمله، فاتسعت خطاها.
جاء صوتها متفائلا من المطبخ، وهي تقول: دياب: هل حضرت ؟
أجابها بصوت قوي: نعم أنا هنا.
اتجهت بعباءتها الواسعة نحوه، كان مسترخياً فوق أريكة واتكأ قليلا ليشعل سيجارا..
ـ مساء الخير حبيبي..
قال باقتضاب: مساء الخير، جهزت الغداء؟
ـ نعم، ساعة واحدة ويكون جاهزا.
صاح غاضبا: قلت لك مائة مرة إنك لابد أن تجهزي الغداء قبل حضوري
أجابت في تردد: ماذا أفعل، المواصلات كانت مزدحمة وجئت متأخرة.
ـ لا شأن لي بذلك، لا تفعلي شيئا، سأخرج.
تساءلت: إلى أين؟
أغلق الباب وراءه بعنف فارتجت شراعاته الزجاجية.
رفعت جذعها عن البلاط الترابي اللون لتمسح عرقا عن جبينها ولتأخذ نفسا عميقا تواصل به عملها الشاق ما بين غسيل وتنظيف وترتيب وكي، دارت أيامها في حلقة مفرغة، عملها في الصباح وواجباتها المنزلية في المساء، تطل شرفتها على بيوت قديمة، خرجت لتنشر ما قامت بغسله من ملابس.
اليوم عطلة تذوقت  لذة الكسل والخمول والدعة فهذا اليوم يحمل أريج أيام تعرفها.. مدعوة هي ودياب اليوم على الغداء عند نجوى، فوجئت بدياب يرتدي بدلته السوداء ويقف أمام المرآة وهو يعقد رابطة العنق فرفعت رأسها قليلا وهي تتثاءب وقالت بصوت خافت:
ـ ألسنا مدعوين على الغداء اليوم؟!
قال وهو يمشط شعره: اذهبي أنت سأخرج أنا لدى موعد هام.
ـ ستخرج ؟! اليوم عطلة إلى أين أنت ذاهب؟!
قال وهو يتعطر: عندي شغل يجب أن أنتهي منه.
قالت في غضب: شغل.. شغل كل يوم أليست له نهاية ؟ كيف أذهب إليها بمفردي.. ماذا أقول حين يسألاني عنك؟
ـ أخبريهم إني مشغول قالها وهو يتجه نحو الباب ثم استدار قال وهو يغلقه مبتسما: إلى اللقاء
لاذت بالصمت واستسلمت وصدرها يحترق كدرًا..
لم تدهمها يوما أحاسيس كتلك التي تشعر بها وهي في شقة شقيقتها.. المقاعد الوثيرة الرخام الأبيض الناصع، الجدران بزخرفتها الستائر المسدلة والشرفات الواسعة، أقبلت نجوى وهي تدفع أمامها عربة الشاي ثم سألتها
ـ ما أخبار دياب؟
ـ بخير.
رنت نجوى إليها وهي تقول: هل تعرفين أين يقضي وقته؟
ـــ  في عمله دائما، يقابل عملاء.
هزت رأسها نافية: عملاء؟!  لا أظن.
تفرست في وجهها قائلة: ماذا تقصدين؟
قالت بتردد: أقصد.. صمتت هنيهة ثم قالت: هدى يجب أن تعرفي الحقيقة ولا أقبل أن أتركك مخدوعة من دياب كل هذا الوقت. 
ـ أكملي
ـ دياب كل يوم مع واحدة.
حدقت في فناجين الشاي كأنما تتوسل لومضة من الماضي أن تبقى ان تعود التصقت شفتاها تود أن تصرخ ولكن شيئا ثقيلا يزحف لا لون ولا اسم له، تهدج صوتها تبعثرت الحروف في خيبة:
ـ رأيته ؟!
ـ كثيرون رأوه وأخبرونا .
ألحت في يأس: هل رأيته بنفسك ؟
قالت في تسليم: نعم
ما بال العذاب غير مؤلم كأن النفس تستعذبه؟ ما بال الخيبة عظيمة، والصقيع قارس، والأمس البعيد شاخص حاضر يلوح في غمضة سحرية من الدفء والحب، الريح تتشبث بأستار ممزقة واضع يدي فوق أذني فتعربد أصداؤها في هلع.! 
نشر الأفق أجنحة سوداء فتخلو الطرقات والشوارع من المارة، وتلفعت المدينة بسكون مظلم وتوشك قطرات المطر أن تمزق شغاف القلب.. الحنين يملأ الفراغ الغرف والأركان.. تضيء أنوار شقتها الباردة، لا شيء يبعث أمنا في الأطراف المرتجفة، ولم تجد ما يبدد برودة تنخر العظام، استلقت فوق الفراش البارد، جذبت الغطاء، ثم نهضت إلى صوانها لتبحث عن شيء ترتديه، توقفت يدها عند معطف من الفراء كان قد اشتراه لها مراد، ظلت تمسح بيدها عليه، وتفيض عيناها بالدمع فلا تراه، ارتدته مغمضة العينين كأن الماضي لم يرحل كأنه مازال يحنو عليها، كأن الحب لم تجف ينابيعه ولم تنضب كأن قسوته لم تحاربها..
" ماذا تطلبين للعشاء؟ .. كما تحب... أنا أحبكِ أنتِ، أنتِ حياتي وروحي"
ما أروع الذكرى وهي ترفل في غلالة من الحنين ونبضة من الشجن..!
انثنت لتمسك بزجاجة عطر متوجة بوردة زرقاء.. ينطلق بصرها حثيثا حيث الأسواق العامرة بالمرح والصخب، النسيم يوسوس إلى الأغصان ويداعب أو راق الشجر.. أيقظ الحواس شذاها وأضرم الفؤاد نيران الشوق واللهفة فتنتحب في ألم.. اليوم تستجدي المشاعر.. تستجدي العطف والحب.. ها هي الملاهي والنوادي والمطاعم التي حملتني إليها تتذكرك وها هو قلبي يسأل عنك باكياً، والحنين ينوء به كاهلي!
تُرى هل كان ما بها مس من الجنون؟ عجبت لحماقة الأوهام وتفاهة الأسباب وسهام الحب التي أطلقت فيها رصاصات دامية، ودت لو تراه فتخبره بأنها نادمة ولكن يعجزنا النطق أحيانا بكلمات عاجزة عن وصف ما نعانيه.. ما عرفت السعادة إلا مذ عرفت هواك، وما ذقت كأس المر إلا مذ فارقتني! ما أدركت الحب إلا بعد فقدك..!
كلما جاءها الشتاء تتذكر شهورا دافئة ولمسات حانية كان يقدمها دون أن تطلبها.. في غب الليل الطويل تستيقظ فزعة ودموع تختنق بها عيناها وتغمغم في لوعة: مراد؟ تنظر حولها فلا تجد دياب بجانبها.. إنه لم يحضر بعد!.

31‏/07‏/2014

رواية " لميس" الحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي .. علا حسان

ظلم مؤلم، عجز مضني، قهر قاتل، كل شيء من حولي موجع ،الألوان واللوحات ، الهمسات والضحكات، الأنامل والجوارح ، الزمان والمكان والكلمات..الظلمات والدوامات ، ظلم يمتد كجرح بطول العمر كله.. يمزق الجسد كله.. بل قهر يمتد ليس بطول عمري فقط.. بل يمتد منذ قرون طويلة ويتسع كل يوم.. جرح لا يقاس طوله بأبعاد الزمان ولا بمقاييس المكان.. جرح يتعدى عمري ليضيف إلى هزائمه هزائم أخرى بطول أزمنة التاريخ .. جرح يؤلم فيه ما حدث في كل بقعة من بقاع تلك الأرض ، جرح بطول التاريخ وعرض الأمة.

   انكسر الوجود في ناظريها ..فشق أذنيها صوت تكسره الزجاجي الحاد،  وتحطمت كل أحلامها .. تحيا في مجتمع لا يصدق إبداع المرأة .. مجتمع ذكرى لا يعترف بقدراتها وباستقلاليتها .. "ريشتي تشهد أنى رسمت جميع لوحاتي بها، "البلتة " التي مزجت فوقها ألواني .. الليالي التي سهرتها ، الوجوه التي نقشتها أناملي، كلها تشهد أنه إبداعي ، وصنع يدي  .. الظلم قاهر كالموت ، والغبن بركان يزحف نحو الزهور والأجساد والبيوت والشهيق الحالم ، والزفرات المطمئنة ، والضحكات المترعة بكئوس البقاء ، والسرائر المفروشة بأوشحة حريرية فيحيلها جمرات داخل موجاته الثقيلة ، ويجعلها زادا لطغيانه المهيمن ..

   تقف أمام لوحاتها ، تتأملها في حسرة .. جميعها لبنات من قلبها وعقلها وروحها .. وكأنها أجنة نبعت من رحمها .. إنه لا يجيد إخراج دفقة المشاعر كما تخرجها ، ريشته عاجزة عن حمل النبض البشري ، يجيد المقاييس فقط ،  بينما تجيد هي رسم الإحساس ، بخطوط سريالية مبحرة في مكونات الطبيعة ورموزها وأشكالها. 

   ها هم يحرمونها ما تملكه، يحرمونها من انتماء أعمالها إليها، وميلادها بين يديها، يضنون عليها بالإبداع والفكر، يظنونها بلهاء، عاجزة.  تبكي في حرقة .. حتى متى تذرفين دموع الهوان يا لميس؟ حتى متى يغتالون براءتك وإقبالك على الحياة ؟.. تُمسك بإحدى لوحاتها ... عساها تنطق فتخبرهم أنها شيء من نفسها ولحمة ذاتها .. نتاجها البكر .. الذي تعهدته بالرعاية والرواء حتى نما واكتمل .

   تركع باكية ، متألمة وقد علا نشيجها حتى شق أستار الليل المسدلة من حولها .. مازالت اللوحة في يدها تقاسمها الألم ، الى ان توارت داخل غيمة بكاء مظلمة ، فاستحالت أشباحا هائمة ، وخيالات راقصة .   

  كفاكِ بكاءً . . ألم تسأمكِ المآقي مثلما يسأمكِ كل شيء .. عقلك وتاريخك والجدران وغلافك الناقم؟..العالم يغني وأنت تبكين .. الأحياء يرقصون وأنت تنشجين؟ انهم يكرهون البكاء .. ينفرون من نظرات الألم  .. حذار أن تبدي شيئا من أوجاعك .. إنما يسعدهم من ينسيهم حسراتهم فلا تذكريهم بها .. وإلا تنبذك الأزهار والأغصان وتعرض عنك الأسنان الضاحكة .. ويفزعك مردتهم الذين ينكلون بأمثالك من مثيري السأم .
 تجلس بجانب صخرة تنطوي ضخامتها على دهور ضوئية ، ربما كانت من قبل في حضن جبل شامخ الأوتاد .. راسخ الجذور .. متصل بالجوف المنصهر وبالسحاب الأملس .. اختبر البرد والزمهرير وشام البرق وتوعد الرعد .. ربما كانت تشكو سوء الحال فهبط بها تيار السيول الجارفة الى بطن واد ترعاه قردة وخنازير .. فكانت موطئا لنعالها المسمومة .. ومراحا لأظفارها الملوثة ..

   بعد قرون مخادعة .. جرفتها رياح الهبوب نحو شاطئ ذلك البحر المبتسم ، توارت خجلا من خدودها المنشوبة ، وتعرجاتها البينة ولكنه راح يمسح عنها آلامها .. يطمئنها أن مياهه المالحة قادرة على ضماد تشققاتها .. وعند كل فجر كانت تلطمها أمواجه في قسوة فتلحم جروحها الغائرة وتزيل قشورها البارزة .. حتى استوت في نعومة ليستند عليها الباكون في مختلف العصور.. ويتناجى عندها العاشقون .. أما هي فتجلس اليوم بمفردها تندب وحدتها وحظها العاثر .. تنظر نحو البحر فتجده مهيبا واثقا متفائلا رغم الظلمة المحدقة به .. 
    " بهاء " يضيق بكآبتها وحزنها ، وعزلتها عن العالم . تنثر نبرة صوته القوية رذاذ الفن والإبداع .. كلماته تثير سخريتها فتحدث نفسها هازئة: " عن أي فن تتحدث.. تساقطت أحلامي معك حلما وراء حلم ، مشيت خلف سراب ، ولم أظفر منه بقطرة ماء تنقع غلة ظمئي ، انها تجارة ومن يدفع الثمن يحظى بالمجد ، قائمة خسائري أطول من حبال نفسي المعقودة"..
   تختلس النظر اليه في مرارة قائلةً لنفسها" فتر ينبوع حبه الخادع ، لم يقدم لأجلك شيئا ذا قيمة ، ووهم المجد الذي حلقت به في السماء كان خرافة كبرى. فلا تعودي أسيرة وهم ماض خادع . الآن أكرهك من صميم قلبي ، أكره قبحك ، وطولك المفرط ، وكتفيك المحنيين ، ولؤمك وكذبك وحقدك الخفي".

18‏/12‏/2013

يا فاطمة .. أدركي أباكِ .. قصة قصيرة ... د. علا حسان


  يجلس السيد فايز في الخمّارة كل ليلة.. يحتسي كأسا وراء أخرى منتشياً.. كأنما يرغب في نسيان آثامه إذ كان يظلم الناس ويأكل حقوقهم، يضرب ويخون ويخدع، يأكل السّحت ويقبل الربا.. لا توجد معصية لم يرتكبها.. يتحاشاه الناس من معصيته... حتى ضاقت به أو ردته وأصيب بذبحة صدرية.. لم يسعفه أحد من السكارى..
ظل ينتظر الطبيب، أطل عليه كائن هلامي لم يستطع أن يستبين ملامحه:
ـ أنت الطبيب ؟
ـ نعم أنا..
قال وهو يزيح ياقة قميصه ويفك أزراره: إذن أنقذني من هذا الاختناق ؟
ـ  سأنقذك بأسرع مما تظن، فأنا قرينك الذي قضيت حياتي في خدمتك.
ـ قريني، مهتم بي طوال حياتي..ولكني لم أرك من قبل.
 برقت عينا القرين وهو ينظر في وجهه قائلا: أنا مكتوب بين عينيك لو كنت تقرأ الجبين لرأيت رسمي فوق جبينك، لا أفارقك إلا عند الموت، إني انتظر خروج روحك من جسدك لأكون قد أنهيت وظيفتي معك فأنتقل إلى غيرك..
ـ جئت تخرج روحي أم تعالجني؟ لست أفهم!
فغر فاه عن بقعة سوداء: قلت لك إني مهتم بك، فأنا قرينك الذي رافقك طيلة عمرك، قمت بعمل دراسات عليك، درست كل خلية في جسمك وفي عقلك وفي بدنك، مداخلك ومخارجك جميعا، أعرف كيف ادخل وكيف أخرج منك، وأعرف نقاط ضعفك وقوتك.
ـ تدرسني أنا ؟
تغيب صورته وتظهر مثل شاشة هلامية:نعم هذه هي مهمتي، أنا أعلم بك منك، بدراستي تلك أعرف ما سيصيبك من أمراض وكيف أقودك إلى هلاكك، ومتى تكون قادراً على النّجاح فأحبطك ومتى تكون عاجزا فأتركك.. ولا أبذل كبير عناء في تنحيتك عما يفيدك، أتذكر ذلك اليوم الذي أردت فيه أن تتزوج من تلك الشقراء الناعسة، كنت أصرخ رعباً وخوفاً من إقدامك على الزواج منها، أو شكت أن تصبح جنتك في الحياة فكيف تعيش في الجنة وأنا في قيد النار؟ أنت تتزوج هذه الصبية الطيبة، على ناري أن تصل إلى مرادك عجزت عن صرفك عنها فدلفت إليها لأكرهها فيك، وأجعلها ترى عيوبك وأخطاءك، أو  تظنني ألهو إني أعمل بجد، أنت عملي ومصدر رزقي، لقد ترقيت بسبب نجاحي في تعطيلك وتدمير حياتك وأطمع في ترقيات أكبر.
مد السيد فايز يديه في الهواء متألماً متحسراً، وقال بحرقة عاجز:آه يا ويلي.. ليتني رأيتك وجهاً لوجه لكنت قتلتك، ليتك تواجهني فأمزقك، أرنيه يارب حتى أقتله ألف مرة، وأخنقه بيدي ضيعني، ضيعني يا الله وافقدني مالي وحالي وشتت شملي وفرق جمعي وآل بي إلى الفقر والذل.
حلق القرين فوق رأسه هازئاً: تخنقني؟ وهل أنا مثلك من طين عفن، إني خلقت من نار وما لمثلك أن يراني أو  يلمسني، تخنق شيطانك العامل على كل خطيئة والحاض والمشجع على اقتراف كل إثم؟ عليك أن تشكرني لأني لم أكن أستريح الا عندما أتركك على باب الخمارة، وعندما أعلم أنه لا فائدة من سعيك، وعندما تدخل المسجد لتصلي أشغلك لأصرفك عن الصلاة ولا يصادفني راحة إلا إذا صليت ووضوءك باطل فأعلم أنه لا فائدة من صلاتك فألهو وأمرح، إن عملي شاق ولا راحة فيه أنت وحدك الذي تمنحني الراحة عندما تيسر على أمور ضلالك.
ـ  كيف لم أنتبه.. ثم تلفت وهو يختنق أكثر:
ـ كف عن الدوران حولي.
ـ درست كل شيء يتعلق بك، ماذا تحب، ماذا تكره، كيف أقنعك بما لا تريده، وأبعدك عما فيه خيرك، كيف أجعلك تخسر أموالك، وأدخل عليك الهمّ والغمّ والقنوط والحنق، وأملؤك بالحقد والغل والضغينة والحسد.. أتذكر تلك الأرض التي سعيت لشرائها لقد كنت أركل وأضرب قدمي في الأرض خوفا وجزعا من أن تشتريها، سيصبح ثريا، سيتركه الفقر كنت أعلم أنها ستجلب ملايين الدولارات لذا صرفتك عنها، وارتاحت نفسي بانصرافك ذاك وهدأت ناري كنت على وشك أن أخسر منصبي لو أنك اشتريتها.. بفضلك نلت أكبر المناصب، امتلأت وصرت قويا لأني أشاركك كل ما تأكل بل آكل أكثر منك، فأنت وهبتني نعمة أشكرك عليها وهي أنك لا تذكر اسم الله فأبتهج وآكل بفرح ونشوة.
ـ إذن أنت أيها اللعين وراء ما حدث من مصائب وكوارث في حياتي أنت من كنت تدفعني إلى الضلال!
ـ نعم، وتعلمت كيف أدفعك إلى الحرام وإلى الخطيئة بكل مهارة وكيف أبعدك عن الطريق المستقيم وعن النجاح في حياتك بكل ما أوتيت من قوة.
ـ لا أصدق، عجيب حبك لإيذائي!
ـ لكم تمنحني شرفا عظيما إذا خنقت نفسك الآن، أن تموت منتحرا إنه أفضل إنجاز سأحصل عليه في هذه المهمة، آه لو تفعلها فأحصل على منصب كبير العتاة، سيصبح لي خدام وجنود وسيكون تحت إمرتي ألف عفريت ! ليتك تفعلها وتسدي لي هذا المعروف.
ـ أي معروف ولم لا تسدي لي أنت معروفا وترحل عني وتتركني ؟
ـ لا أتركك قبل أن تتركك نفسك، سأغتم إذا نجوت، يؤلمني أن أراك سعيدا منشرح الصدر، ويقتلني الغم والكدر إذا نجحت في شيء وكم أفرح عندما تصيبك مصيبة أو  توشك أن تقبل عليك، ألم تشعر بفرحي ذاك، ألم تشعر بسعادة تسبق مصائبك دائما ألم تكن تنتابك نوبات فرح هائجة؟ إنه فرحي أنا لأني أعلم حقيقة ما أنت مقدم عليه.
ـ نعم، أذكر فرحي الشديد عند توقيعي ذلك العقد المنحوس وتلك الشيكات التي دمرت حياتي،  كان فرحا غبيا مني، أنت لم تضيعني بل أضاعني غبائي وحمقي.. يالي من غبي، لو أعود إلى قوتي وعافيتي، أبقني يا الله بضع سنوات بل عاما واحدا حتى أمحو جرائر الأيام.. أكفر عن الآثام.. حتى أبكي على أعتابك يا الله نادما، أبقني، لا تقبض روحي..
همس القرين في أذنه ضاحكاً منتشياً:
 ـ جنودي يؤدون عملهم في تأخير سيارة الإسعاف عنك.. اليوم أنت ذاهب إلى الجحيم ولا مغفرة لك.. فات أوان التوبة.
حرك فايز يده ورأسه في كل اتجاه متألما: لعنة الله عليك.. لعنة الله عليك... ياليت بيني وبينك بعد المشرقين، بئس القرين أنت.
     حملت سيارة الإسعاف السيد فايز.. بعد محاولات مضنية من الأطباء تم إنقاذه من براثن الذبحة الصدرية.. نصحوه بالابتعاد عن مهيجات الذبحة.. أبدى ندمه على ما فات بضعة أيام ونوى الاستقامة.. قاطع الهلس أياما وسرعان ما عاد إلى سيرته الأولى..  لم يتذكر من أمر القرين شيئا سوى أنه كابوسٌ لعين..

ـ2ـ

   بعد عدة أعوام.. قرر السيد فايز أن يتزوج وينجب.. فتزوج وأنجب ابنة سماها فاطمة.. أحبها حباً شديداً.. أصبحت نور حياته الذي يبصر به، كانت براءتها تخطف فؤاده، وتشعره بدناسة أفعاله وحقارته، وكلما كبرت فاطمة زاد إيمانه، وما إن ترى بيده كأس من الخمر، حتى تقترب منه وهي تحبو لتزيحه بيدها الصغيرة، فيحملها ويجلسها في حجره وينسى شرب الخمر، وكلما كبرت طفلته قلت كبائره، وابتعد شيئا فشيئاً عن المعاصي.. حتى أتمت ابنته ثلاث سنوات. وفجأة ماتت فاطمة.. واراها الثرى ولم يستطع الصبر على فراقها فعاد أسوأ مما كان.. وتلاعب به الشيطان.. خيرته زوجته بينها وبين خمره وكأسه، فاختار أن يبقى كما هو، يمضي صباحه في النوم، وليله في السكر والخمر.
 وذات يوم قال له قرينه: " لتسكرن اليوم سكرة ما سكرت مثلها من قبل" فعزم أن يشرب الخمر وظل طيلة الليل يشرب ويشرب ويشرب...
 بعد عودته من الحانة، دخل بيته وهو يترنح، ألقى بجسده النحيل فوق الأريكة، لم يشعل ضوء بيته البارد، جلس في الظلمة، يتمايل بجانبه ضوء خافت قادم من غرفة فاطمة، ولما تذكرها بكى بكاء مريرا لفقدها..
شعر بوخز في صدره وضيق تنفس، أزاح قميصه عن عنقه، اعترته أعراض الذبحة مرة أخرى، ونسي ما كان من أمر توبته في الذبحة الأولى التي نجا منها، ولكنه لن ينجو من براثنها في هذه المرة.
 تراءى له وجه القرين، بذل جهدا لتذكر أين رآه من قبل، وسرعان ما انقلب القرين إلى وجه جميل:
ـ أنا ربك ألا تراني، اسجد لي واشكرني وأنا سأبقيك، ولن أقبض روحك..
عاودته ذكرى ذبحته الأولى، فتذكر وجه قرينه، إنه ذلك الذي رآه من قبل، وأنسته الأيام حقده وعداوته، لا يدري كيف نسي عدوه اللدود الذي أهلكه وساقه في طريق الضياع، كيف أو هم نفسه بأنه كان كابوسا، وتجاهل خططه ومكره واعترافاته.
أشاح بوجهه مشمئزا: انصرف عني أيها اللعين، أعرفك.. كيف تبدلت.. أتريد لي الكفر؟.. أنت اللعين..
ـ بل أنا ربك..ألا تدعوني الآن سأستجيب لك وأمنحك عفوي وغفراني فقبل يدي واسجد لي وقل لي لا إله إلا أنت.
ـ انصرف عني.. أغثني يا الله أنا الضعيف اللاجئ ببابك..أغثني من اللعين..
اختفى القرين محلقاً، ابتلعه سقف البيت، وإذا بالسيد فايز يبصر ابنته واقفة أمامه، في طفولتها البريئة، وجمالها السماوي، مد يده متشوقاُ ليضمها إلى صدره، فعجز عن رفع جذعه، كان ثقيلا محموماً كأنما يرزح جسده تحت أكوام من الرمل، بدت أمامه طفلته الحبيبة.. جاءته في ثياب ناصعة البياض، لتؤنبه قائلة:
ـ ماذا بك يا أبي إنه ربك لم لا تشكره وتسجد له؟
ـ من ؟ فاطمة ..  كيف عدت ؟
ـ نعم أنا فاطمة يا أبي.. صدقني إنه الحق.. آمن به يا أبي.
ـ عمن تتحدثين..؟
 ـ عن ربك.. انظر إليه كم هو جميل يا أبي!
ـ أترين ذلك يا ابنتي؟
ـ نعم يا أبي.. صدقه.
تردد برهة، ثم قال: لا، ليس هو.
ـ بل هو، أنت لم تره من قبل يا أبي، ولا تعرفه.
ـ لا يا ابنتي إنه اللعين الذي أضلني.. إنه ليس ربي.
اختفت طفلته عن عينيه وما زال يمد يده متشوقا لأن يحتضنها. تلون القرين مرة أخرى ليظهر في صورة أبويه، حدثته أمه المسكينة بنبرتها الحانية:
ـ ماذا بك يا ابني لم لا تسجد لربك لم لا تشهد به؟
ـ لا يا أمي إنه ليس بربي.
فقال أبوه:
ـ بل ربك يا بني، آمن به.
ـ حتى أنت يا أبي ! جميعكم تريدونني أن أكفر ؟!
ـ استغفر ربك يا ابني.
ـ ليس بربي.. اتركوني.. ارحلوا عني.
ـ كيف يتركونك؟ لما لا تصدقهم؟.. أتكذب ابنتك وهي في الجنة ووالديك وهما أحن الناس عليك ألا ترغب في دخول الجنة؟
ـ نعم أرغب.
ـ إذن اسجد لي وقل لي لا إله غيرك.
ـ بل ألعنك واستغفر ربي واسأله العفو.. أسأله أن ينتقم منك.. أن يرفع غضبه ومقته عني.. ليت السنين تعود فأبصق عليك كل يوم.. ولا أفعل شيئا غير السجود لله والاستغفار والعبادة.
قال القرين ساخراً: فات أوان الاستغفار، فقد اخترت غوايتك بنفسك، ولا تلقي باللائمة علي فأنا بريء منك... إبكِ ما شاء لك البكاء فلن تسعك بعد اليوم أرض ولا سماء..
عضّ أصابع الندم وهو يردد:
ـ آه.. أيها القرين اللعين! ليتني أعود فأقهر غبائي وأترك شهواتي وأتوب عن المعاصي.. ليت العمر يعود من جديد فأصلح ما فات.. أفعل هذا ولا أفعل ذاك، ليت قدمي قطعتا قبل أن تمشي في الخطيئة... ليت يدي بترت قبل أن تضرب وتسرق.. ليت لساني لم ينطق بالكفر.. ليت جوارحي لم تفعل شيئا غير عبادة ربي.. ليتني كنت تراباً.. كيف يعود العمر.. هل من كرة أخرى؟.. كرة أخرى يا الله... امنحني هذه الأمنية.. هبني إياها.. أتوسل إليك...أعدني.. أرجعني أعمل صالحاً.. الدموع تخنقني والندم يمزقني. أما من عودة ؟ بضعة أيام. وكيف تعود الأيام.. كرة واحدة يا الله..  كرة واحدة.

ـ3ـ


    بُعث السيد فايز إلى يوم الحشر، أظلمت الشمس، وزلزلت الأرض، سيرت الجبال، واشتعلت البحار ناراً.. وجمعت الأمم إلى أرض المحشر.. الناس أمم لا حصر لها.. تلوح رؤوسهم في الأفق كرؤوس النمل.. سواد عظيم يزحف كبساط من الموج.. هؤلاء هم البشر الذين كانوا يحيون فوق الأرض.. هؤلاء الناس الذين كانوا يتصارعون ويتقاتلون في الدنيا؟ كلٌ اليوم في شأن يغنيه.. يناديهم المنادي فردا فردا، ليقرأ كتاب كل منهم وتعرض أعماله، فتسود وجوههم عند قراءة صحائفهم، والسيد فايز بين الناس، غارق في زحام البشر، حتى نودي: "السيد فايز هلم للعرض على الجبّار" ارتعدت فرائصه، تحول وجهه إلى سواد شديد لشدة خوفه، وإذا بالبشر يختفون من حوله وكأن لا أحد في أرض المحشر.. وفوجئ بإخطبوط عالٍ ضخمٍ يقفز نحوه فاتحا فمه. فجرى هلعا ورعبا، تلفت في كل اتجاه حتى وجد شيخاً ضعيفاً، فرجاه قائلا: أغثني من هذا الوحش.
ـ يا بني أنا ضعيف لا أستطيع ولكن اجر في هذه الناحية لعلك تنجو.
جرى حيث أشار له وإذا بالنار تلقاء وجهه والإخطبوط خلفه.." أأهرب من الوحش لأسقط في النار" فعاد يجري مسرعاً، والإخطبوط يتلوى ناثرا أذرعته، فعاد للرجل الضعيف واستغاث به: "بالله عليك أنجدني أنقذني".
بكى الشيخ رأفة بحاله، وقال: أنا ضعيف كما ترى لا أستطيع فعل شيء ولكن اجر تجاهذلك الجبل لعلك تهرب.
 جرى للجبل، والثعبان يفغر فاه لالتهامه، فرأى على الجبل أطفالا صغاراً وإذا بالأطفال كلهم يصرخون: يا فاطمة أدركي أباك.. أدركي أباك.
نظر فرأى ابنته تطير نحوه.. وهو ميتٌ من شده الخوف فدفعت الإخطبوط بيدها اليمنى وأخذت أبيها بيدها اليسرى، عجب لقوتها ولقدرتها على الإمساك به، وفرح برؤيتها وبنجدتها له في ذلك الموقف العصيب.
 جلست فاطمة في حجره كما كانت تجلس في الدنيا. بدت عليه الحيرة فسألها: يا بنيتي أخبريني عن هذا الوحش، لم يلاحقني؟
ـ هذا عملك السيئ أنت كبرته ونميته حتى كاد أن يأكلك.. أما عرفت يا أبي أن الأعمال في الدنيا تعود مجسمة يوم القيامة؟
ـ وذلك الشيخ الضعيف؟
ـ ذلك العمل الصالح.. أنت أضعفته وأوهنته حتى بكى لحالك لا يستطيع أن يفعل لك شيء ولولا أنك أنجبتني ولولا أني مت صغيره ما كان هناك شيء ينفعك.
مكث السيد فايز محتضناً طفلته الصغيرة لم يسقط في جحيم النار ولم يرق إلى نعيم الجنة [1].








[1] تصور عصري لرؤيا مالك بن دينار رحمه الله.